الكلام في القضاء والقدر
قال أبو محمد: ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز وجل بكذا أي حكم به ويكون أيضاً بمعنى أمر قال تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضاً بمعنى أخبر قال الله تعالى: " وقضينا إليه ذلك الأمر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنا في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضاً بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى: " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديراً إذا رتبته وحددته قال تعالى: " وقدر فيها أقواتها " بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يريد تعالى برتبة وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البدل
قال أبو محمد: قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.
قال أبو محمد: والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة وهو ان تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافراً وما دام لا يؤتيه الله عز وجل العون فإذا آتاه إياه تمت استطاعته وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وارتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم ارتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس بظاهر أمره عاجزاً إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهراً وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله تعالى عوناً عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق علمه تعالى في هذه حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو مختار لما يفعل قلنا نعم اختياراً صحيحاً لا مجازاً لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الاختيار على الحقيقة وليس مضطراً ولا مجبراً ولا مكروهاً لأن في هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطراً مختاراً مكرهاً في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها فيأمر أعوانه مختاراً لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك الضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلاً بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة إنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختاراً من وجه مكرهاً من وجه آخر عاجزاً من وجه مستطيع من آخر قادر من وجه ممنوعاً من آخر وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في خلق الله عز وجل لأفعال خلقه
قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده فذهب أهل السنة كلهم وكل من قال بالاستطاعة مع الفعل كالمريسي وابن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة إلى ان جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل على تخليط منهم في مائية أفعال النفس إلا بشر بن معتمر عطف فقال إلا أنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله تعالى فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ونسميه بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية.
قال أبو محمد: وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون رجلاً من كبار المعتزلة وهو عباد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطي إلى ان قال أن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معاً لكن خلق أجسامهم دون كفرهم.
قال أبو محمد: ويلزمه مثل هذا نفسه في المؤمنين وفي جميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن وكافر والمؤمن إنسان وإيمانه أو ملك وإيمانه أو جني وإيمانه وكفره فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال أن الله تعالى خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيد بل يكون القول بهذا كذباً وحسبك بهذا القول خلافاً للقرآن وللمسلمين وقال معمر والجاحظ أن أفعال العباد كلها إلا فعل لهم فيها وإنما نسب إليهم مجازاً لظهورها منهم وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة قال أبو محمد: ومن تدبر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد طبيعة اضطرارية كفعل النار للإحراق بطبعها وفعل الثلج للتبريد بطبعه وفعل السقمونيا في إحدارها الصفراء بطبعها وهذه صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه وإنما يظهر من المرء تبديل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ونحن نجد كل قوي الآلة من الرجال يحب وطيء كل جميلة يستمتع بها لولا التقوى ويحب النوم عن الصلاة في الليالي القارة والهواجر الحارة ويحب الأكل في أيام الصوم ويحب إمساك ماله عن الزكاة وإنما يأتي خلاف ما يريد مغالبة لإرادته وقهراً لها وأما صرفاً لها فلا سبيل له إليه فقد تم الإخبار صحيحاً على قول هذين الرجلين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: والبرهان على صحة قول من قال أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحس لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق فمن النصوص قول الله عز وجل: " هل من خالق غير الله ".
قال أبو محمد: هذا كاف لمن عقل واتقى الله وقد قال لي بعضهم إنما أنكر الله تعالى أن يكون ها هنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.
قال أبو محمد: وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قوله غير الله ثم ابتدأ عز وجل بتعديد نعمه علينا فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض وقال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وهذا برهان جلي على أن الدين مخلوق لله عز وجل وقال تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا ".
قال أبو محمد: ومنهم من يعبد المسيح وقالت الملائكة وصدقوا بل كانوا قوماً يعبدون الجن فصح أن كل من عبدوه منهم المسيح والجن لا يخلقون شيئاً ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فثبت يقيناً أنهم مسرفون مديرون وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم وقال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ".
قال أبو محمد: وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئاً لأنه لو كان هاهنا أحد غيره تعالى يخلق لكان من يخلق موجوداً جنساً في حيز ومن لا يخلق جنساً آخر وكان الشبه بين من يخلق موجوداً وكان من لا يخلق لا يشبه من يخلق وهذا إلحاد عظيم فصح بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده وكل من عداه لا يخلق شيئاً فليس أحد مثله تعالى فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه وقال تعالى: " ولكل وجهة هو موليها " وهذا نص جلي من كذبه كفر وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله عز وجل عنه فلم يبقى إذ هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لا أحداً من الناس وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه منه ومنها قول الله عز وجل: " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " وهذا إيجاب لأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وإن كل من دونه لا يخلق شيئاً أصلاً ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المقررين جواباً قاطعاً ولقالوا له نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك ونعم هاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا وقوله عز وجل: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء " وهذا بيان واضح لا خفاء به لأن الخلق كله جواهر وإعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد دون الله تعالى وإنما يفعله الله عز وجل وحده فلم تبق إلا الأعراض فلو كان الله عز وجل خالقا ًلبعض الأعراض ويكون الناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق ولكانوا قد خلقوا كخلقة خلق إعراضاً وخلقوا إعراضاً وهذا تكذيب لله تعالى ورد للقرآن مجرد فصح أنه لا يخلق شيئاً غير الله عز وجل وحده والخلق هو الاختراع فالله مخترع أفعالنا كسائر الأعراض ولا فرق فإن نفوا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا أنها أفعال لغير فاعل أو أنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام الجمادية وغيرها فإن فالوا هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر نصاً ويكلمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر وإن قالوا أنها أفعال الإجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل محال وهو أيضاً غير قولهم فالطبيعة لا تفعل شيئاً مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر فهو خالق الكل ولابد ولله الحمد ومنها قوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " وهذا نص جلي على أنه تعالى خلق أعمالنا وقد فسر بعضهم قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.
قال أبو محمد: وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود أو الحجر هذا ما لا يجوز في اللغة أصلاً ولا في المعقول وإنما يستعمل ذلك موصولاً فنقول عملت هذا العود صنماً وهذا الحجر وثناً فإنما بين تعالى خلقه الصنمية التي هي شكل الصنم ونص تعالى على ذلك بقوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " فإنما عملنا النحت بنص الآية وبضرورة المشاهدة فهي التي علمنا وهي التي أخبر تعالى انه خلقها.
قال أبو محمد: وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا لأن الخشبة لا تسمى عوداً ولاطنبوراً لو حلف إنسان لا يشتري طنبوراً فاشترى خشباً لم يحنث وكذلك لو حلف أن لا يشتري خشباً فاشترى طنبوراً لم يحنث ولا يقع في اللغة على الطنبور اسم خشبة وقال تعالى: " خلق السماوات والأرض " فهي مخلوقة بنص القرآن وقد قال بعضهم إنما قال تعالى: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فكانت أعمال الناس مخلوقة في تلك الأيام.
قال أبو محمد: لم ينف الله عز وجل ان يخلق شيئاً بعد الستة أيام بل قد قال عز وجل: " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق " وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا ًآخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبداً ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبداً بلا نهاية إلا أن عموم خلقه تعالى للسموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود وقال بعضهم لا نقول أن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.
قال أبو محمد: وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك وقد قال تعالى: " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " فصح ان السحاب ليست مماسة لسماء ولا للأرض فهي إذاً على قول هذا الجاهل غير مخلوقة ويلزمه أيضاً أن يقول بقول معمر والجاحظ في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الموت ولا الحياة لان كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.
قال أبو محمد: وأما قول معمر والجاحظ أن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ البيعة إنما هي قوة الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا يعقل وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر منها أنها أفعالها مخترعه لها فهو في غاية الجهل وبالضرورة نعلم ان تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق هاهنا إلا خالق الكل وهو الله لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: ومن بلغ ههنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدهر وتكذيبه القرآن إذ يقول الله تبارك وتعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقوله تعالى: " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عز وجل نعوذ بالله مما ابتلاهم به وأقحمهم فيه وقال معمر معنى قوله تعالى: " خلق الموت والحياة " إنما معناه الإماتة والإحياء.
قال أبو محمد: فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين بينين أحدهما إحالته النص من كلام ربه تعالى بلا دليل والثاني أنه لم يزل عما لزمه لأن الموت والحياة هما الإماتة والإحياء بلا شك لأن الحياة والإحياء هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين النفس والجسد المذكور فقط فإذا كان جمع النفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تعالى فقد صح ان الموت والحياة مخلوقان له تعالى يقيناً وبطل تمويه هذا المجنون.
قال أبو محمد: ومن النصوص القاطعة في هذا قول الله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فلجأ بعضهم إلى دعوى الخصوص وذكر قول الله تعالى: " تدمر كل شيء بأمر ربها فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " وقوله تعالى: " وأوتيت من كل شيء " وقوله: " فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها بيان جلي على أنها إنما دمرت كل شيء أمرها الله تعالى بتدميره لا ما لم يأمرها فهو عموم لكل شيء أمرها به وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء فمن للتعبيط فمن آتاه الله شيئاً من الأشياء فقد آتاه من كل شيء لأنه قد آتاه بعض الأشياء وأما قوله تعالى ففتحنا عليهم أبواب كل شيء فحق ونحن لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وإنما أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره بل كل عموم فعلى ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص وبالنسخ إلى ما لم يقم برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبداً لأنه لا يعجز أحد في أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عز وجل أن يحمله على غير ظاهره وعلى بعض ما يقتضيه عمومه وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر.
قال أبو محمد: ومن ذلك قوله تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .
قال أبو محمد: فنص الله على أنه برأ المصائب كلها فهو بارئ لها والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك فصح يقيناً أن الله تعالى خالق كل شيء إذ هو خالق كل ما أصاب في الأرض وفي النفوس ثم زاد تعالى بياناً برفع الأشكال جملة بقوله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " فبين تعالى أن ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له تعالى وبه عز وجل التوفيق وأما من طريق النظر فإن الحركة نوع واحد وكما يقال على جملة النوع فهو يقال مقول على أشخاص ذلك النوع ولا بد فإن كان النوع مخلوقاً فأشخاصه مخلوقة وأيضاً فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله عز وجل لكان من قال العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق كاذب لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى الأشياء صادقاً ونعوذ بالله تعالى من كل قول أدى إلى هذا ونسألهم هل الله تعالى إله العالم ورب كل شيء أم لا فإن قالوا نعم سئلوا أعموماً أو خصوصاً فإن قالوا بل عموماً صدقوا ولزمهم ترك قولهم إذ من المحال أن يكون تعالى إلهاً لما لم يخلق وإن قالوا بل خصوصاً قيل لهم ففي العالم إذاً ما ليس الله إلهاً وما لا رب له وإن كان هذا فإن من قال أن الله تعالى رب العالمين كاذب وكان من قال ليس الله إلهاً للعالمين ولا برب العالمين صادقاً وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله أنه رب العالمين وخالق كل شيء وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن وبالضرورة ندري الحركات الاختيارية كلها نوع واحد فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقاً وبعضه غير مخلوق.
قال أبو محمد: واعترضوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا قال الله عز وجل: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا " وقال تعالى: " لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " وقال تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " وقوله تعالى: " وتخلقون أفكا وقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " وقوله: " الذي أحسن كل شيء خلقه " وقوله: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي إن قالوا إن كان الله تعالى خلق أعمال العباد فهو إذاً يغضب مما خلق ويكره ما فعل ويسخط فعله ولا يرضى ما فعل ولا ما دبر وقالوا أيضاً كل من فعل شيئاً فهو مسمى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك فلو خلق الله الخطاء والكذاب والظلم والكفر لنسب كل ذلك إليه تعالى الله عن ذلك وقالوا أيضاً لا يعقل فعل واحد من فاعلين هذا فعله كله أو هذا فعله كله وقالوا أيضاً أنتم تقولون عن الله تعالى خلق الفعل وإن العبد اكتسبه فأخبرونا عن هذا الاكتساب الذي انفرد به العبد أهو خلق أم هو غيره فإن قلتم هو خلق الله لزمكم أنه تعالى اكتسبه وأنه مكتسب له إذ الكسب هو الخلق وإن قلتم أن الكسب هو غير الخلق وليس خلقاً لله تعالى تركتم قولكم ورجعتم إلى قولنا وقالوا أيضاً إذا كانت أفعالكم مخلوقه لله تعالى وأنتم تقولون أنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها فقد أوجبتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله تعالى بعض خلقه وقالوا أيضاً إذا كان فعلكم خلقاَ لله تعالى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق وقالوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرضا بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ففرض علينا الرضا بالكفر والظلم والكذب.
قال أبو محمد: هذه عمدة اعتراضاتكم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى نستعين أما قول الله تعالى: " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتاباً وقالوا هذا من عند الله فأكذبهم الله تعالى في ذلك واخبر أنه ليس منزلاً من عنده ولا مما أمر به عز وجل ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال تعالى إن ذلك الكتاب ليس مخلوقاً لله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة ولا شك عند المعتزلة وعندنا في أن ذلك الكتاب مخلوق لله تعالى لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل مخلوق بلا شك وأما قوله: " تبارك الله أحسن الخالقين " فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يتدافع وقال تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين فقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " فهذه الآية بينت ما تعلق به المعتزلة وذلك أن قوماً جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فجعلوهم خالقين فأنكر والله تعالى ذلك فعلى هذا خرج قوله تعالى: " تبارك الله أحسن الخالقين " كما قال تعالى: " يكيدون كيداً وأكيد كيداً " وقال: " ومكروا ومكر الله " ويبين بطلان ظنون المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " أفيكون مسلماً من أوجب لله تعالى شركاً من أجل قول الله تعالى للكفار الذين جعلوا له شركاء أين شركائي ولا شك في أن هذا الخطاب إنما خرج جواباً عن إيجابهم له الشركاء تعالى الله عن ذلك وكذلك قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وقد علمنا أن كلام الله تعالى كله هو على حكم ذلك المعذب لنفسه في الدنيا إنه العزيز الكريم وقد علمنا بضرورة العقل والنص أنه ليس لله تعالى شركاء وأنه لا خالق غيره عز وجل وأنه خالق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر وبهذا خرج قوله تعالى: " أحسن الخالقين " مع قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئاً لما أنكر ذلك عز وجل إذ هو عز وجل لا ينكر وجود الموجودات وإنما ينكر الباطل فصح ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى فإذ لا شك في هذا فليس في قول الله تعالى: " أحسن الخالقين " إثبات لأن في العالم خالقاً غير الله تعالى يخلق شيئاً وبالله تعالى التوفيق وأما قوله: " وتخلقون إفكاً " وقوله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " وقول زهير بن أبي سلمى المزني: وأراك تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري فقد قلنا ان كلام الله تعالى لا يختلف وقد قال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " وقال تعالى: " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا " وبيقين علم كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار الملائكة والجن والمسيح عليه السلام قال تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار: " بل كانوا يعبدون الجن " فقد صح يقيناً بنص هذه الآية أن الملائكة والجن والمسيح عليه السلام لا يخلقون شيئاً أصلاً ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كانوا هؤلاء يخلقون أفعالهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم وإن كان هؤلاء لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فسائر الناس لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فإن ذلك كذلك وكلام الله عز وجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله عز وجل للمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق لا يجوز البتة غير هذا فإن هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفيه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط وانفرادهم به والله تعالى خالقه فيهم برهان ذلك أن العرب تسمي الكذب اختلاقاً والقول الكاذب مختلقاً وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى واللفظ مركب من حروف الهجاء وقد كان كل ذلك موجود النوع قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا لقوله عز وجل: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وكقوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " " فبيقين يدري كل ذي حس يؤمن بالله تعالى وبالقرآن " إن الزرع والقتل والرمي الذي نفاه عن الناس وعن المؤمنين وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غير الزرع والقتل والرمي الذي أضافه إليهم لا يمكنه البتة غير ذلك لأنه تعالى لا يقول إلا الحق فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل شيء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبة ذلك كله إليهم كذلك نقط وبالله تعالى التوفيق وقول زهير: " وأراك تخلق ما فريت " لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود وإنما أراد النفاذ في الأمور فقط فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين أحدهما لله تعالى لا لأحد دونه وهو الإبداع من عدم إلى وجود والثاني الكذب فيما لم يكن أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره أو نفاذ فيما حاول وهذا كله موجود من الحيوان والله تعالى خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق وبهذا تتألف النصوص كلها وأما قوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " فهو عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أن بصنعه أتقن كل شيء وهذا على عمومه وطاهره فالله تعالى صانع كل شيء وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً وهذا عين الإتقان وأما قوله تعالى: " أحسن كل شيء خلقه " فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين إحداهما احسن كل شيء خلقه بإسكان اللام فيكون خلقه بدلاً من كل شيء بدل البيان فهذه القراءة حجة عليهم لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عز وجل وهكذا نقول أن خلق الله تعالى لكل شيء حسن والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى خلقه بفتح اللام وهذه أيضاً لا حجة لهم فيها لأنه ليس فيها إيجاب لأن هاهنا شيئاً لم يخلق الله عز وجل ومن ادعى أن هذا في اقتضاء الآية فقد كذب وإنما يقتضي لفظة الآية أن كل شيء فالله خلقه كما في سائر الآيات والله تعالى أحسنه إذ خلقه وهذا قولنا وكذا نقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هذه كيفيات وأعراض حسن خلقها من الله عز وجل قد أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجساد وإنما قبح ما قبح من ذلك من الإنسان لأن الله تعالى سمى وقوع ذلك أو بعضها ممن وقعت منه قبيحاً وسمى بعض ذلك حسناً كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسن إيماناً ثم سماها تعالى قبيحة كفراً وهذه تلك الحركة نفسها فصح أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسناً فهو حسن وفاعله محسن قال الله تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " وقال الله تعالى: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " وما سماه الله تعالى قبيحاً فهو حركة قبيحة وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسناً فهو كله من الله تعالى حسن وسمى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء فبعض ذلك قبحه فهو قبيح وبعض ذلك حسنه فهو حسن وبعض ذلك قبحه ثم حسنه فكان قبيحاً ثم حسن وبعض ذلك حسنه ثم قبحه فكان حسناً ثم قبح كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد ان كانت قبيحة وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده وكسبي من نقض الذمة وسائر الشريعة كلها وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن خلق الله تعالى للخمر والخنازير والأحجار المعبودة من دونه حسن بلا شك وهو سماه قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون والمتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة كل ذلك من خلق الله تعالى له حسن وكله فيما قبيح رديء جداً يستعاذ بالله منه وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها فقال عز وجل: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " فنص تعالى على أنه برأ المصايب كلها وبرأ هو خلق بلا خلاف من أحد ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنى أن الله تعالى قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل ما قال أن إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصايب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك فأي شيء قالوه في هذه الأشياء فهو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق كل ذلك وقد أحسن الله خلقه إذ حركة أو سكوناً أو ضميراً في النفس وسمى ظهوره من العبد قبيحاً موصوفاً به الإنسان وأما قوله تعالى: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " فلا حجة لهم في هذا أيضاً لأن التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإن ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتاً فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ولا يكذب الله تعالى إلا كافر فبطل ظن المعتزلة إن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل مرئي فيه مشاهد بالعين فيه فبطل احتجاجهم والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه قيل لهم نعم وبالله التوفيق وهو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً بل هو معدوم جملة إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها لا نحاشي شيئاً منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جرياً مستوياً في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة وهيئة واحدة إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلاً ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ثم تحت نوع الكيفية ثم تحت اسم العرض وقعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ثم تحت فعل النفس ثم تحت الكيفية والعرض وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية وتحت اسم العرض وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولا اختلاف وهكذا القول في الظلم والإنصاف وفي العدل والجور وفي الصدق والكذب وفي الزنا والوطء الحلال وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرأس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة على ما بينا في كتاب التقريب والحمد لله رب العالمين فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها وهي أنه لو كان وجود الكفر والظلم تفاوتاً كما زعموا لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن وقد كذب الله تعالى ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت وأما اعتراضهم من طريق النظر بأن قالوا أنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذاً يغضب مما فعل ويغضب مما خلق ولا يرضى ما صنع ويسخط ما فعل ويكره ما يفعل وإنه يغضب ويسخط من تدبيره وتقديره فهذا تمويه ضعيف ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا الله عز وجل بذلك وهو تعالى قد أخبرنا أن يسخط الكفر والظلم والكذب ولا يرضاه وأنه يكره كل ذلك ويغضب منه فليس إلا التسليم لقول الله تعالى نعم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم أليس الله خلق إبليس وفرعون والخمر والكفار فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز وجل عن هؤلاء كلهم أم هو ساخط لهم كاره لهم غضبان عليهم غير راض عنهم فنقول لهم هذا نفس ما أنكرتم من انه تعالى سخط تدبيره وغضب من فعله وكره ما خلق ولعنه فإن قالوا لم يكره عين الكافر ولا سخط شخص إبليس ولا كره عين الخمر لم نسلم لهم ذلك لأنه تعالى قد نص على أنه تعالى لعن إبليس والكفار وإنهم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تعالى مغضوب عليهم وكذا الخمر والأوثان وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " وقد سمى الله تعالى كل ذلك رجس ثم أمر بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ولا خلاف في أنه عز وجل خالق كل ذلك فهو خالق الرجس بالنص ولا فرق في المعقول بين خلق الرجس وخلق الكفر والظلم والكذب وقوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " فعلى قول هؤلاء المخاذيل أنه تعالى يغضب مما ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بلا شك ضرورة فقد صح عليهم ما شنعوا به من أنه يغضب من فعله أيضاً فيقال لهم هل الله تعالى قادر على منع الظالم من المظلوم وعلى منع الذين قتلوا رسل الله صلى الله عليهم وسلم وعلى أن يحول بين الكافر وكفره وأن يميته قبل أن يبلغ وبين الزاني وزناه بإضعاف جارحته أو بشيء يشغله به أو تيسير إنسان يطل عليهما أم هو عاجز عن ذلك كله قادر على شيء منه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا هو غير قادر على شيء من ذلك عجزوا ربهم وكفروا وبطلت أدلتهم على إحداث العالم إذ أضعفوا قدرته عن هذا اليسير السهل وإن قالوا بل هو قادر على ذلك كله فقد أقروا أيضاً على أنه تعالى رأى المنكر والكفر والزنى والظلم فأقره ولم يغيره وأطلق أيدي الكفار على قتل رسله ضربهم ومع إقراره لكل ذلك فلم يكتف بكل ذلك إلا حتى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مانع وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر واختياراً منه تعالى لكل ذلك وهذا كفر مجرد وأما أنه يغضب مما أقر ويسخط مما أعان عليه ويكره ما فعل من إقرارهم على كل ذلك وهذا هو الذي شنعوا به لا بد من أحد الوجهين ضرورة وكلاهما خلاف قولهم إلا ان هذا لازم لهم على أصولهم ولا يلزمنا نحن شيء منه لأننا لا نقبح إلا ما قبح الله تعالى ولا نحسن إلا ما حسن الله تعالى فإن قالوا إنما أقره لينتقم منه وإنما يكون سفهاً وعبثاً لو أقره أبداً قيل لهم أي فرق بين إقراره تعالى الكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه إياه ساعة بعد ساعة وهكذا أبداً بلا نهاية أو بنهاية في الحسن والقبح وإلا فعرفونا الأمد الذي يكون إقرار الكفر والكذب والظلم إليه حكمة وحسناً وإذا تجاوزه صار عبثاً وعيباً وسفهاً فإن تكلفوا أن يحدوا في ذلك حداً أتوا بالجنون والسخف والكذب والدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا لا ندري وردوا الأمر في ذلك إلى الله عز وجل صدقوا وهذا هو قولنا أن كل ما فعله الله تعالى من تكليف ما لا يطاق وتعذيبه عليها وخلقه الكفر والظلم في الكافر والظالم وإقراره كل ذلك ثم تعذيبها عليه وخلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه كل ذلك من الله تعالى حكمة وعدل وحق وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأما قولهم أن من فعل شيئاً أن ينسب إليه ويسمي به نفسه وأنه لا يعقل ولا يوجد غير هذا إيجابهم بهذا الاستدلال أن يسمى الله تعالى ظالماً لأنه خلق الظلم وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين أحدهما أن هذا تشبيه محض لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بالحكم الموجود الجاري على خلقه ويقال لهم إذ لم تجدوا فاعلاً في الشاهد إلا جسماً ولا عالماً إلا بعلم هو غيره ولا حياً إلا بحياة هي عرض فيه ولا مخبراً عنه إلا جسماً أو عرضاً وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا يتوهم ولا يعقل ثم رأيتم الباري تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما وجدتم فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم علينا في أن يسمى من أفعاله ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بلا خلاف ذلك بالبرهان الضروري هو أن الله عز وجل خلق كل ما خلق من ذلك مخترعاً له كيفية مركبة في غيره فهكذا هو فعل الله تعالى فيما خلق وأما فعل عباده لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر ذلك الفعل عرضاً محمولاً في فاعله لأنه إما حركة في متحرك وأما سكون في ساكن أو اعتقاد في معتقد أو فكر في مفتكر أو إرادة في مريد ولا مزيد فبين الأمرين بون بائن لا يخفى على من له أقل فهم وأما المدح والذم واشتقاق اسم الفعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحاً ولا ذماً إلا من مدحه الله تعالى أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه فهو عز وجل محمود على كل ما فعل محبوب لذلك وأما من دونه تعالى فمن حمد الله تعالى فعله الذي أظهره فيه فهو ممدوح محمود ومن ذم عز وجل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مزيد وبرهان هذا إجماع أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عز وجل ولا يستحق الذم إلا من عصا وقد يكون المرء مطيعاً محموداً اليوم ممدوحاً بفعله إن فعله اليوم وكافراً مذموماً به إن فعله غداً كالحج في أشهر الحج وفي غير أشهر الحج ولصوم يوم الفطر والأضحى وصوم رمضان وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت وبعد الوقت وكسائر الشرائع كلها وقد وجدنا فاعلاً للكذب قائلاً له وفاعلاً للكفر قائلاً به وهما غير مذمومين ولا يسمى واحد منهما كاذباً ولا كافراً وهما الحاكي والمكره فبطل ما ظنت المعتزلة من انه كل من فعل الكذب فهو كاذب ومن فعل الكفر فهو كافر ومن فعل الظلم فهو ظالم وصح أنه لا يكون كاذباً ولا كافراً ولا ظالماً إلا من سماه الله تعالى كافراً وكاذباً وظالماً وإنه لا كفر ولا ظلم ولا كذب إلا ما سماه الله كفراً وكذباً وظلماً وصح بالضرورة التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء محمود ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه وأما ما لا يقع عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمها هو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح ولا حمد ولا ذم إلا بنص من قبله فنحمده كما امرنا أن نقول الحمد لله رب العالمين وأما من دونه ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة وكالحور العين والإنس والجن وكالجمادات فلا يستحق حمداً ولا ذماً لأن الله تعالى لم يأمر بذلك فيها فإن وجد له تعالى أمر بمدح شيء منها أو ذمه وجب الوقوف عند أمره تعالى كأمره تعالى بمدح الكعبة والمدينة والحجر الأسود وشهر رمضان والصلاة وغير ذلك وكأمره تعالى بذم الخمر والخنزير والميتة والكنيسة والكفر والكذب وما أشبه ذلك وأما ما عدا هذين القسمين فلا حمد ولا ذم واما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك أيضاً ولا فرق وليس لأحد أن يسمي شيئاً إلا بما أباحه الله تعالى في الشريعة أو في اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها وقد وجدناه تعالى أخبرنا بأن له كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نسيه وهذا لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق من ذلك فلا يقال ماكر من أجل أن له مكراً ولا أنه كياد من أجل أنه يكيد وأن له كيداً ولا يسمى مستهزئاً من أجل أنه يستهزئ بهم فقد أبطل ما أصلوه من أن كل فعل فعلاً فإنه يسمى منه وينسب إليه ولا يشغب هاهنا مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول إنما قلنا أنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على المعارضة بذلك فإنا نقول له صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسميه تعالى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى المعارضة كما تقول فإن أبى من ذلك وقال أن الله تعالى لم يسم بشيء من ذلك نفسه فقد رجع إلى الحق ووافقنا في أن الله تعالى لا يسمى ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً من أجل خلقه الظلم والكفر والكذب لأنه تعالى لم يسم بذلك نفسه وإن أنكر ذلك تناقض وظهر بطلان مذهبه.
قال أبو محمد: وقد وافقونا على ان الله تعالى خلق الخمر وحبل النساء ولا يجوز ان يسمى خماراً ولا محبلاً وأنه تعالى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وسائر الألوان ولا يسمى صباغاً وأنه تعالى بنى السماء والأرض ولا يسمى بناء وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقياً وأنه تعالى خلق الخمر والخنازير وإبليس ومردة الشياطين وكذلك كل سوء وسيء وخبيث ورجس وشر ولا يسمى من أجل ذلك مسيئاً ولا شريراً فأي فرق بين هذا كله وبين أن يخلق الشر والظلم والكفر والكذب ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئاً ولا ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً ولا شريراً ولا فاحشاً والحمد لله على ما من به من الهدى والتوفيق وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو ويقال لهم أيضاً أنتم تقرون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر والظلم والكذب وهيأها لعباده ولا يسمونه من أجل ذلك مغوياً على الكفر ولا معيناً للكافر في كفره ولا مسبباً للكفر ولا واهباً للكفر وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن تعذيبه أهل جهنم في النيران أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء فإن قالوا بل محسن إليهم قالوا الباطل وخالفوا أصلهم وسألناهم أن يسألوا الله عز وجل بأنفسهم ذلك الإحسان نفسه وإن قالوا أنه مسيء إليهم كفروا به وإن قالوا ليس نسيء إليهم قلنا لهم فهم في إساءة أو في إحسان فإن قالوا ليسوا في إساءة كابروا العيان وإن قالوا بل هم في إساءة قلنا لهم هذا الذي أنكرتم أن يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ولا يسمى بذلك مسيئاً وأما نحن فنقول لهم إنهم في غاية المساءة والإساءة والسخط إليهم وعليهم وليس السخط إحساناً إلى المسخوط عليه وكذلك اللعنة للملعون وإنه تعالى محسن على الإطلاق ولا نقول أنه مسيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق و الأصل في ذلك ما قلناه من انه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه ولا مزيد فإن قالوا إذا جوزتم أن يفعل الله تعالى فعلاً ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالماً فجوزنا أن نخبره بالشيء على خلاف ما هو ولا يكون بذلك كاذباً وإن لا يعلم ما يكون ولا يكون بذلك جاهلاً وإن لا يقدر على شيء ولا يكون بذلك عاجزاً قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال من وجهين أحدهما أننا قد أوضحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة وإنما الظلم بالإضافة فيكون قتل زيد إذ نهي الله عنه ظلماً وقتله إذا أمر الله بقتله عدلاً وأما الكذب فهو كذب لعينه وبذاته فكل من اخبر بخبر بخلاف ما هو فهو كاذب إلا أنه لا يكون ذلك إثماً ولا مذموماً إلا حيث أوجب الله تعالى فيه الإثم والذم فقط وكذلك القول في الجهل والعجز أنهما جعل لعينه وعجز لعينه فكل من لم يعلم شيئاً فهو جاهل به ولا بد وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد والوجه الثاني ان بالضرورة التي بها علمنا من نواة التمر لا يخرج منها زيتونة وإن الفرس لا ينتج جملاً بها عرفنا ان الله تعالى لا يكذب ولا يعجز ولا يجهل لأن كل هذه من صفات المخلوقين عنه تعالى منفية إلا ما جاء نص بأن يطلق الاسم خاصة من أسمائها عليه تعالى فيقف عنده وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ولا يجيزون وقوعهما منه تعالى وليس وصفهم إياه عز وجل بالقدرة على ذلك بموجب إمكان وقوعه منه تعالى فلا ينكروا علينا أن نقول أن الله عز وجل فعل أفعالاً هي منه تعالى عدل وحكمة وهي منا ظلم وعبث وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول انه يقول الكذب ويجهل فبطل هذا إلا لزام والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإننا لم نقل أنه تعالى يظلم ولا يكون ظالماً ولا قلنا أنه يكفر ولا يسمى كافراً ولا قلنا أنه يكذب ولا يسمى كاذباً فيلزمنا ما أرادوا وإلزامنا إياه وإنما قلنا أنه خلق الظلم والكذب والكفر والشر والحركة والطول والعرض والسكون إعراضاً في خلقه فوجب أن يسمى خالقاً لكل ذلك كما خلق الجوع والعطش والشبع والري والسمن والهزال واللغات ولم يجز أن يسمى ظالماً ولا كاذباً ولا كافراً ولا شريراً كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه متحركاً ولا ساكناً ولا طويلاً ولا عريضاً ولا عطشان ولا ريان ولا جائعاً ولا شابعاً ولا سميناً ولا هزيلاً ولا لغوياً وهكذا كل ما خلق الله تبارك وتعالى فإنما يخبر عنه بأنه تعالى خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه الله عرضاً فيه واما قولهم لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله فإن هذا تحكم ونقصان من القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم وقولهم إنما يستدل بالشاهد على الغايب وهذا قول قد أفسدناه في كتابنا في الأحكام في أصول الأحكام بحمد الله تعالى ونبين هاهنا فساده بإيجاز فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلاً وإنما يغيب بعض الأشياء من الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهده في العقل المذكور لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه وكلاهما يقتضي خالقاً أولاً واحداً لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه فإن كانوا يعنون بالغائب الباري عز وجل فقد لزمه بالحاضر وفي هذا كفاية بل ما دل الشاهد كله إلا ان الله تعالى بخلاف كل من خلق من جميع الوجوه وحاشا لله أن يكون جل وعز غائباً عنا بل هو شاهد بالعقل كما نشاهد بالحواس كل حاضر ولا فرق بين صحة معرفتنا به عز وجل بالمشاهدة بضرورة العقل وبين صحة معرفتنا لسائر ما نشاهده ثم نرجع إن شاء الله تعالى إلى إنكارهم فعلاً واحداً من فاعلين فنقول وبالله تعالى التوفيق إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر لا على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ولا إرادة واحدة لمريدين ولا فكرة واحدة لمفتكرين ولكن لو أخذ اثنان سفاً واحداً أو رمحاً واحداً فضربا به إنساناً فقطعاه أو طعناه به لكانت حركة واحدة غير منقسمة لمتحركين بها وفعلاً واحداً غير منقسم لفاعلين هذا أمر يشاهد بالحس والضرورة وهذا منصوص في القرآن من أنكره كفر وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " وليهب لك غلاما زكيا كلا القراءتين بنقل الكواف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل صلى الله عليه وسلم فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم الروح الأمين إنه هو الواهب لها عيسى عليه السلام وإذا قرئت بالياء فهو من إخبار جبريل عن الله عز وجل لأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليه السلام فهذا فعل من فاعلين نسب إلى الله عز وجل الهبة لأنه تعالى هو الخالق لتلك الهبة ونسبت الهبة أيضاً إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها وكذلك قوله عز وجل: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فأخبر الله تعالى أنه رمى وأن نبيه رمى فأثبت تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الرمي ونفاه عنه معاً وبالضرورة ندري أن كلام الله عز وجل لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غير هذا مسلم البتة فصح ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله عز وجل لأنه خلقه وهو تعالى خالق الحركة التي هي الرمي و ممضي الرمية وخالق مسير الرمي وهذا هو المنفي عن الرامي وهو النبي صلى الله عليه وسلم وصح أن الرمي للذي أثبته الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا هو نص قولنا دون تكلف وكذلك قوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى: " زينا لكل أمة عملهم " وقوله تعالى: " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " ضرورة أن تزيين الله لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في نفوسهم وأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو بظهور الدعاء إليها وبوسوسته وقال تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه قال: " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله " أفليس هذا فعلاً من فاعلين من الله تعالى ومن المسيح عليه السلام بنص الآية وهل خالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقد أخبر عيسى إذ يخلق ويبرئ فهو فعل من فاعلين بلا شك وقال عز وجل مخبراً عن نفسه أنه يحيي ويميت وقال عيسى عليه السلام عن نفسه وأحيي الموتى بإذن الله فبالضرورة نعلم أن الميت الذي أحياه عليه السلام والطير الذي خلق بنص القرآن فإن الله تعالى أحياه وخلقه وعيسى عليه الصلاة والسلام أحياه وخلقه بنص القرآن فهذا كله فعل من فاعلين بلا شك وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول في قوله تعالى: " وأحلوا قومهم دار البوار جهنم " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو الذي أحلهم فيها بلا شك لكن لما ظهر منهم السبب الذي حلوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس: " كما أخرج أبويكم من الجنة " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو أخرجهما وأخرج إبليس معهما لكن لما ظهر من إبليس السبب في خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " فنقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج له عليه السلام ولنا هو الله تعالى لكن لما ظهر السبب في ذلك منه عليه السلام أضيف الفعل إليه فهذا كله لا يوجب الشرك بينهم وبين الله تعالى كما تموه المعتزلة وكل هذا فعل من فاعلين وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق وقال تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " وقال تعالى: " وأملي لهم إن كيدي متين " وقال تعالى: " الشيطان سول لهم وأملى لهم " فعلمنا ضرورة أن إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب بل بسط لهم من الدنيا ومد لهم من العمر ما كان لهم عوناً على الكفر والمعاصي وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما هو بالوسوسة وإنساء العقاب والحض لهم على المعاصي وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " فهذا فعل من فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وأنماه ونسب إلينا لأننا تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا فهذه كلها أفعال خلقها الله تعالى وأظهرها في عباده فقط وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وتحقيق هذا القول في الأفعال هو أن الله سبحانه وتعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهراً حاملاً وعرضاً محمولاً ناطقاً وغير ناطق فغير الحي هو الجماد كله والناطق هو الملائكة وحور العين والجن والإنس فقط وغير الناطق هو كل ما عدا ذلك من الحيوان ثم خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكوناً وتأثيراً قد ذكرناه آنفاً فالفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن والنار تحرق والثلج يبرد وهكذا في كل شيء بهذا جاء القرآن وجميع اللغات قال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً وقال تعالى: " فإما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك تجري في البحر بأمره والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " ومثل هذا كثير جداً وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط لا يختلف لغة في ذلك وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: " أجنبني ونبي أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيراً من الناس " فأخبر أن الأصنام تضل وقال تعالى: " تذروه الرياح وهذا أكثر من أن يحصى والأعراض أيضاً تفعل كما ذكرنا قال عز وجل: " والعمل الصالح يرفعه وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فالظن يردى والعمل يرفع ولم تختلف أمة في صحة القول أعجبني عمل فلان وسرني خلق فلان ومثل هذا كثير جداً وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد والبرد يجمد ومثل هذا كثير جداً وقد بيناه والكل خلق الله عز وجل وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضاً ثم خلق سبحانه وتعالى في الحي غير الناطق وفي الحي الناطق قصداً ومشيئة لم يخلق ذلك في الجماد كإرادة الحيوان الرعي وتركه والمشي وتركه والأكل وتركه وما أشبه هذا ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزاً لم يخلقه في الحي غير الناطق ولا في الجماد وهو التصرف في العلوم والمعارف هذا كله أمر مشاهد وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله تعالى منه فقط فخلق تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار والتمييز وخلق في الحي غير الناطق الفعل والاختيار فقط وخلق في الجمال الفعل فقط وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا وبالجملة فلا فرق بين من كابر وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وبين آخر جاهر وكابر فأنكر فعل المختار باختياره وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل وضرورته أنه فعل لما ظهر منه ومعلوم كل ذلك بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في المطبوع وفي المختار فإن فروا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وأنه فعل المختار فقد قلنا قد بينا بطلان هذا قبل ولكن نعارضكم هاهنا بأن منكم من يقول بأن الله تعالى أيضاً لم يخلق فعل المطبوع وأنه فعل المطبوع فقط كمعمر وغيره من كبار المعتزلة فإن قالوا أخطأ من قال هذا وكفر قلنا لهم وأخطأ أيضاً وكفر من قال أن أفعال المختار لم يخلقها الله تعالى ولا فرق فإن قالوا أن الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع الذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك الفعل قلنا لهم والله عز وجل هو خالق المختار وخالق اختياره وخالق قوته وهم الذين ينسبون الفعل إليهم فهو عز وجل خالق ذلك الفعل ولا فرق.
قال أبو محمد: وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو عرض أوحي أو ناطق أو غير ناطق فهو الذي تشهد به الشريعة وبه جاء القرآن والسنن كلها وبه تشهد البينة لأنه أمر محسوس مشاهد وبه تشهد جميع اللغات من جميع أهل الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط بل كل لغة لا نحاشي شيئاً منها وما كان هكذا فلا شيء أصح منه فإن قالوا تسمون الجماد والعرض كاسباً قلنا لا لأنا لا نتعدى ما جاءت به اللغة من أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من قال الله تعالى فيه: " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولحق بالسوفسطائية في أبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول أن الله عز وجل فاعل ذلك ولا نسميه كاسباً فإن قيل أتقولون أن الجمادات والعرض عامل قلنا نعم لأن اللغة جاءت بذلك وبه نقول الحديد يعمل والحر يعمل في الأجسام وهكذا في غير ذلك فإن قيل أتقولون للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة قلنا إنما نتبع اللغة فقط فنقول إن الجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من أن نقول فيها طاقة قال الله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فنقول الحديد ذو بأس شديد وذو قوة عظيمة وذو طاقة وقد قلنا لكم لا نتعدى في التسمية والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما جاء به القرآن ونص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي صح به البرهان وما عداه فباطل وضلال وبالله تعالى التوفيق وأما اعتراضهم بهل الخلق هو الكسب أو غيره فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنا وجميع أعمالنا وأفعالنا لذلك هو خلق لله عز وجل فينا كما ذكرنا لأن كل ذلك شيء وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " ولكننا لا نتعدى باسم الكسب حيث أوقعه الله تعالى مخبراً لنا بأننا نجزي بما كسبت أيدينا وبما كسبنا في غير موضع من كتابه ولا يحل أن يقال أنه كسب لله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله ولا يحل ان يقال أنها خلق لنا لأن الله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله لكن نقول هي خلق لله كما نص على أنه خالق كل شيء ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ولا نسميه في الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله عز وجل لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء وخالق الأسماء وخالق المسميات حاشاه تعالى وخالق الهواء الذي ينقسم على حروف الهجاء فتتركب منها الأسماء فإذا كانت الأسماء مخلوقة لله والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عز وجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وجل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في الشريعة أو أباح إيقاعه عليه بإباحته الكلام باللغة التي أمرنا الله عز وجل بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها ديننا ونعلمه بها وقد نص تعالى على هذا القول وقال منكراً على قوم أوقعوا اسماً على مسميات لم يأذن الله تعالى بها ولا بإيقاعها عليها: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " فأخبر عز وجل ان من أوقع اسماً على مسمى لم يأت به نص بإيجابه أو بالإذن فيه بالشريعة أو بجملة اللغة فإنما يتبع الظن والظن أكذب الحديث وإنما يتبع هواه وقد حرم الله تعالى اتباع الهوى وأخبر تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال تعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فليس لأحد أن يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدى الله عز وجل وبه التوفيق فصح ضرورة أنه ليس لأحد ان يقول أن أفعالنا خلق لنا ولا أن ها كسب لله عز وجل ولكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله تعالى كسب لنا كما جاء في هدى الله الذي هو القرآن وقد بينا أيضاً أن الخلق هو الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلاً فأفعالنا ليست خلقاً لنا والكسب إنما هو استضافة الشيء إلى جاعله أو جامعه بمشيئة الله وليس يوصف الله تعالى بهذا في أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب له تعالى وبه نتأيد وأيضاً فقد وافقونا كلهم على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأجسام وكلهم حاشا معمراً وعمرو بن بحر الجاحظ موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأعراض كلها حاشا أفعال المختارين وكلهم ومعمر والجاحظ أيضاً موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق الأمانة والأحياء وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما سمي خالقاً لكل ما خلق لإبداعه إياه وكم يكن قبل ذلك فإذا ثبت بالبرهان اختراعه تعالى لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى خلقاً له عز وجل ويسمى هو تعالى خالقاً لها وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقاً لله تعالى وكان متوهماً منا ومستطاعاً عليه في ظاهر امرنا بسلامة جوارحنا ان لا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا أننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح وأنه متوهم منا منع الله من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
قال أبو محمد: وهذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنهم القائلون أنهم يقدرون ويستطيعون على الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يخلق منه الولد وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله أنه لا بد ان يكون وأنه يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يكون منه النبات الذي تكون منه الأقوات والمعاش فيلزمهم ولا بد أهم قادرون على منع الله تعالى مما قد علم وقال أنه سيفعل.
قال أبو محمد: ومن بلغ هاهنا فلا بد أن يرجع إما تائباً محسناً إلى نفسه أو خاسئاً غاوياً مقلداً منقطعاً أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة وضرورة العقل والقرآن وبالله تعالى التوفيق وأما نحن فجوابنا ها هنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم يعلم الله أننا سنفعله ولا على ترك ما علم أننا نفعله ولا على فسخ علم الله تعالى أصلاً ولا على تكذيبه عز وجل في فعل ما أمر تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق ما أطلق الله تعالى من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله تعالى أنه يكون ولا مزيد وهي استطاعة بإضافة لا استطاعة على الإطلاق لكن نقول هو مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط فإن قالوا فأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا علمه إذ أمركم بفعل ما علم أنه لا تفعلونه قلنا عند تحقيق الأمر فإن أمره عز وجل لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله: " قل كونوا حجارة أو حديداً " وكقوله: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ".
قال أبو محمد: وقد تحيرت المعتزلة هاهنا حتى قال بعضهم لو لم يقتل زيد لعاش وقال أبو الهذيل لو لم يقتل لمات وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عز وجل " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة وبالضرورة علمنا أن من عمر ماية عام وعمر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاماً فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده إن ضربوا زيداً أماته وإن لم يضربوه لم يمته من أن علمه غير محقق فربما أعاش زيداً ماية سنة وربما أعاشه أقل وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عز وجل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أن يكون ولا يكون البتة إلا ما سبق في علمه أن يكون والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل لكان يموت أو ليعيش فسؤاله سخيف لأن إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت أو كان لا يموت وهذه حماقة جداً لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه " فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله عز وجل لم يزل يعلم أن زيداً سيصل رحمه وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا كل حي في الدنيا لأن من علم الله تعالى أنه سيعمره كذا وكذا من الدهر فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغدى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لابد من استيفائها والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يبدل قال تعالى: " ما يبدل القول لدي " ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة ولكان غير عليم بما يكون متشككاً فيه لا يكون أم لا يكون وجاهلا به جملة وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق وهذا كفر ممن قال به وهم لا يقولون بهذا.
قال أبو محمد: ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى عز وجل: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " وقال تعالى: " قل لن ينفعكم الفرار أن فررتم من الموت أو القتل " وقال تعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقال تعالى منكر القول قوم جرت المعتزلة في ميدانهم: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت " وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ".
قال أبو محمد: وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد ان سمعها عن الكفر نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وموه بعضهم بأن ذكر قول الله تعالى " ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ".
قال أبو محمد: وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلاً ولم يقل لشيء دون شيء لكن على الجملة ثم قال تعالى " وأجل مسمى عنده " فهذا الأجل المسمى عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان أحدهما ليس أجلاً إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكان الباري تعالى مبطلاً إذ سماه أجلاً وهذا كفر لا يقوله مسلم وأجل الشيء هو ميعاده الذي لا يتعداه وإلا فليس يسمى أجلاً البتة ولم يقل تعالى أن الأجل المسمى عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء منقضى أمره بالضرورة نعلم ذلك ويبين ذلك قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقال: " ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها " وقد أخبرنا تعالى بذلك أيضاً فقال: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا " فتظاهرت الآيات كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق وأما الأرزاق فإن الله تعالى أخبرنا فقال: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال تعالى: " وخلقناكم أزواجاً " فكل مال حلال فإنما نقول أنه تعالى رزقنا إياه وكل امرأة حلال فإننا نقول أن الله تعالى زوجنا إياها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالاً بغير حق أو امرأة بغير حق فلا يجوز أن يقول أنه تعالى رزقنا إياه ولا أن الله تعالى ملكنا إياه ولا أن الله أعطانا إياه ولا أن الله تعالى زوجنا إياها ولا أن الله تعالى ملكنا إياها ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك وقد قلنا أن الله تعالى له التسمية لا لنا لكن نقول أن الله ابتلانا بهذا المال وبهذه المرأة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وخلق تملكنا إياهما ونكاحها لنا واستعمالنا إياهما ولا نقول أنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا وهب لنا الحرام ولا آتانا الحرام كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد وجب أنكم شركاؤه فيها فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا من أبرد ما موهوا به وهو عائد عليهم لأنهم يقولون أنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض ويخلقها ويخترعها فهذا هو عين الإشراك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا لأن الإشراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنهم وليس ذلك بموجب أن تكون شركاؤه فيها لاختلاف جهات الملك لأن الله تعالى إنما هو مالك لها لأنها مخلوقة له تعالى وهو مصرفنا فيها وناقلها عنا وناقلنا عنها كيف شاء الله تعالى وهي ملكنا لأنها كسب لنا وملزمون إحكامها ومباح لنا التصرف فيها بالوجوه التي أباحها الله تعالى لنا وأيضاً فنحن عالمون بأن محمداً رسول الله والله تعالى عالم بذلك وليس ذلك موجباً لأن نكون شركاؤه في ذلك العلم لاختلاف الأمر في ذلك لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا وعلم الله تعالى ليس هو غيره ومثل هذا كثير جداً لا يحصى في دهر طويل بل لا يحصيه مفصلاً إلا الله وحده لا شريك له فكيف لم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا عندهم في هذه الوجوه كلها ووجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه مدخل وهو خلقه تعالى لا فعال لنا هو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها بمعنى ظهورها محمولة فينا وهذا خلاف فعل الله تعالى لها وقد قال بعض أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق وهي لنا من جهة الكسب.
قال أبو محمد: وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي وللأفعال جهات وزاد بعضهم فقال أو ليست أعراضاً والعرض لا يحمل العرض والصفة لا الصفة.
قال أبو محمد: وهذا جهل من قائله وقضية فاسدة من أهذار المتكلمين ومشاغلهم وقول يرده القرآن والمعقول والإجماع من جميع اللغات والمشاهدة فأما القرآن فإن الله تعالى يقول: " عذاب عظيم وعذاب أليم ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " وقال تعالى: " وأنبتها نباتاً حسناً " وقال تعالى: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وقال تعالى: " ومكروا مكراً كبارا " وقال تعالى: " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى: " وجاؤوا بسحر عظيم " وقال تعالى: " صفراء فاقع لونها " وقال تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم " وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " وقال تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله " وقال تعالى: " فلما أضاءت ما حوله " وقال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فأخذتكم الصاعقة " وقال تعالى: " مما تنبت الأرض " وقال تعالى: " لما يتفجر منه الأنهار " وقال تعالى: " فيخرج منه الماء " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ".
قال أبو محمد: فوصف الله تعالى العذاب بالعظم وبالإيلام وبأن فيه أكبر وأدنى ووصف النبات بالحسن وكيد الشيطان بالضعف وكيد النساء بالعظم والمكر بالكبر والسحر بالعظم واللون بالفقوع وذكر أن البغضاء تبدو وأن الكلام الطيب يصعد إليه تعالى وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلام الطيب وأن الظن يردي وأن الردي يسخط الله تعالى ومثل هذا في القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد امرأ مسلما لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عز وجل بما ذكرنا وأما إجماع اللغات فكل لغة لا ينكر أحد فيها القول بصورة حسنة وصورة قبيحة وحمرة مشرقة وحمرة مضيئة وحمرة كدرة ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول لي صف عمل فلان وهذا عمل موصوف وصفة عمل كذا وكذا وهذا هو الذي أنكروا بعينه وهو أكثر من أن يحصى وأما الحس والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هذه خاصة الكيفية التي توجد في غيرها وكل هذا عرض يحمل عرضاً وصفة تحمل صفة.
قال أبو محمد: وقد عارضني بعضهم في هذا فقال لو أن العرض يحمل العرض لحمل ذلك العرض عرضاً آخر وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل.
قال أبو محمد: فقلت أن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوة الفاسدة وهذا الذي ذكرت لا يلزم لأننا لم نقل أن كل عرض فواجب أن يحمل أبداً لكنا نقول أن من الأعراض ما يحمل الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لا يحمل الأعراض وكل ذلك جار على ما رتبه الله عز وجل وعلى ما خلقه وكل ذلك له نهاية تقف عندها ولا يزيد ونحن إذا وجد فيما بيننا جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه فليس يجب من ذلك أن الزيادة موجودة إلى ما لا نهاية له لكن تنتهي الزيادة إلى حيث رتبها الله عز وجل وتقف وإنما العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط ونقول لهم أتخالف حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا فلا بد لهم من أن يقروا بأنها قد تخالفها في صفة ما إلا ان ينكروا العيان فنقول لهم أتخالف الحمرة الصفرة أم لا فلا بد أيضاً من نعم فنقول لهم أخلاف الحمرة للحمرة هو خلاف الحمرة للصفرة أم لا فلا بد من لا ولو قالوا نعم للزمهم أن الصفرة هي الحمرة إذا كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فإذاً في الحمرة والصفرة صفتان بهما يختلفان غير الصفة التي بها تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فقد صح يقيناً أن الصفة قد تحمل الصفة وأن العرض قد يحمل العرض لضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى وكل ذلك ذو نهاية ولا بد وتحقيق الكلام في هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد والجوهر أجناس وأنواع والعرض أجناس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذكرناها في كتاب التقريب عمدتها أن الأجناس أقل عدداً من الأنواع المنقسمة تحتها بلا شك والأنواع أكثر عدداً من الأجناس إذ لا بد من ان يكون تحت كل جنس نوعان أو أكثر من نوعين والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من مبدأه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن أن يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا مساوياً له لأن هذا يوجب النهاية ولا بد فالعالم إذاً ذو نهاية لأنه ليس شيئاً غير الأجناس والأنواع التي للجواهر والأعراض فقط والمعاني إنما هي للأشياء المعبر عنها بالألفاظ فقط فإذ هذا كما ذكرنا فإنما نقيس الأشياء بصفاتها التي تقوم منها حدودها مثل أن نقول ما الإنسان فنقول جسم ملون ونفس فيه تمكن أن تكون متصرفة في العلوم والصناعات يقبل الحياة والموت فيقال ما الجسم وما النفس وما اللون وما الصناعات وما العلوم وما الحياة وما الموت فإذا فسرت جميع هذه الألفاظ ورسمت كل ما يقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع فقد انتهت المعاني وانقطعت ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلاً لأن كل ما ينطق به أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة والأنواع والأجناس محصورة كما بينا وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد لأنه ذو مبدأ وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة فجميع المعاني من الأعراض وغيرها محصورة بما ذكرنا من البرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العلم مما خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جنس أو عرض فهو كله محصور عدده متناه أمده ذو غاية في ذاته في مبدأه ومنتهاه وعدده وبالله التوفيق وقد نعجز نحن عن عد شعور أجسامنا ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك فليس قصور قولنا عن إحصاء عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقاً لله عز وجل ثم عذبنا عليه فإنما عذبنا على خلقه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا لا يلزم ولو لزمنا للزمهم إذا كان تعالى يعذبنا على إرادتنا وحركتنا الواقعتين منا أن يعذبنا على حركة لنا أو على كل إرادة لنا بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة فإن قالوا لا يعذبنا إلا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بخلاف أمره عز وجل وكذلك نقول نحن أنه لا يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا بخلاف أمره وهو منسوب إلينا ومكتسب لنا لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا فرق ولو أخبرنا تعالى أنه يعذبنا على ما خلق في غيرنا لقلنا به ولصدقناه كما نقر أنه يعذب أقواماً على ما لم يفعلوه قط ولا أمروا به لكن على ما يفعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل قال الله تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " وقال تعالى حاكياً عن أحد ابني آدم عليه السلام أنه قال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " وقال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " وليس هذا معارضاً لقوله تعالى: " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء " بل كلا الآيتين متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله عز وجل أن يحملها أحد عن أحد بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل بها شيئاً فهذا لا يكون لأن الله عز وجل نفاه وأما الحمل لمثل عقاب العامل للخطيئة مضاعفاً زائداً إلى عقابه غير حاط من عقاب الآخر شيئاً فهو واجب موجود وكذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبداً لا يحط ذلك من أوزارهم العاملين لها شيئاً ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا دون أن نسنه وإنه يعذبنا على غير فعل فعلناه أو على الطاعة لكان كل ذلك حقاً وعدلاً ولوجب التسليم له ولكن الله تعالى وله الحمد قد آمننا من ذلك بقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا أهتديتم " ولحكمه تعالى أننا لا نجزي إلا بما عملنا أو كنا مبتدئين له فآمنا ذلك ولله تعالى الحمد وقد أيقنا أيضاً أنه تعالى يأجرنا على ما خلق فينا من المرض والمصائب وعلى فعل غيرنا الذي لا أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلماً وتعذيبهم لنا وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلماً وليس هاهنا من المقتول صبر ولا عمل أصلاً فإنما أجر على فعل غير مجرداً إذا أحدثه فيه وكذلك من أخذ غيره ماله والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات فأي فرق بين أن يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعلم باحتراق ماله وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عز وجل وأما قولهم فرض الله عز وجل الرضى بما قضى وبما خلق فإن كان الكفر والزنا والظلم مما خلق ففرض علينا الرضى بذلك فجوابنا إن الله عز وجل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضى بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظهر تمويههم بهذه الشبهة.
قال أبو محمد: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " فالجواب أن يقال لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب الأصلح وهم جمهور المعتزلة في ثلاثة أوجه وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين لأن في هذه الآية إن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه وهم كلهم لا يفرقون بين الأمرين بل الحسن والقبيح من أفعال المرء كل ذلك عنده من نفس المرء لا خلق لله تعالى في شيء من فعله لا حسنة ولا قبيحة فهذه الآية مبطلة لقول جميعهم في هذا الباب والوجه الثاني إنهم كلهم قائلون إنه لا يفعل المرء حسنة ولا قبيحة البتة إلا بقوة موهوبة من الله تعالى مكنة بها من فعل الخير والشر والطاعة والمعصية تمكيناً مستوياً وهي الاستطاعة على اختلافهم فيها فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفي المستطيع أو بعضها أوعرضا فيه وفي هذه الآية فرق بين الحسن والسيء كما ترى وأما الوجه الثالث الذي خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون أن الله تعالى لم يؤيد فاعل الحسنة بشيء من عنده تعالى لم يؤيد به فاعل السيئة والآية مخبرة بخلاف ذلك فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم وأما قولنا نحن فيها فهو ما قاله الله عز وجل إذ يقول متصلاً بهذه الآية دون فصل: " قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ثم قال تعالى بأثر ذلك بعد كلام يسير: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح بما ذكرنا أن كل هذا الكلام متفق لا مختلف فقدم الله تعالى أن كل شيء من عنده فصح بالنص أنه تعالى خالق الخير والشر وخالق كل ما أصاب الإنسان ثم أخبر تعالى ما أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق لأنه لا يجب لنا تعالى عليه شيء فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لاشيء لنا فيه وإحسان منه إلينا لن نستحقه قط عليه وأخبر عز وجل أن ما أصابنا من مصيبة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من عند الله تعالى فصح أننا مستحقون بالنكال لظهور السيئة منا وإننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى فحكمه الحق والعدل ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا فإذا كان الله خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء قلنا كلا لأن الله تعالى خلق فينا علماً تعرف به أنفسنا الأشياء على ما هي عليه وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلاً لنا فخلق فيه استحسان ما يستحسنه واستقباح ما يستقبحه وخلق تصرفاً في الصناعات والعلوم ولم يخلق في الجمادات شيئاً من ذلك فنحن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أو كارهون متصرفون علماً بخلاف الجمادات فإن قيل فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم قلنا لا لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله تعالى إذ الكل مما في العالم مخترع له وملك له عز وجل والتفويض فيه معنى من الاستغناء ولا غني بأحد عن الله عز وجل وبه نتأيد.
قال أبو محمد: فإذ قد أبطلنا بحول الله تعالى وقوته كل ما شغب به المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول بأنها مخلوقة لله تعالى فنقول وبه عز وجل نتأيد أن العالم كله مادون الله تعالى ينقسم قسمين جوهر وعرض لا ثالث لهما ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد وبالضرورة نعلم أن ما لزم كل ما تحته إذ محال أن تكون نار غير حارة أو هواء راسب بطبعهأو إنسان جهال بطبعه وما أشبه هذا ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطعم والمجسة والأشكال جنس الكيفية فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقاً وبعضه غير مخلوق وهذا أمر يعلمه باطلاً من له أدنى علم بحدود العالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذلك مع كل حركة في العالم وكل سكون في العالم نوع من الحركة ونوع من السكون ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مزيد حركة اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذلك حركة تحد بحد الحركة وسكون يحد بحد السكون ومن المحال أن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تعالى وبعضها غير مخلوق وكذلك السكون أيضاً فإن لجؤوا إلى قول معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل ما ظهرت فيه بطباع ذلك الشيء سهل أمرهم بعون الله تعالى وذلك أنهم إن أقروا أن الله تعالى خالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على ما هي عليه فهو تعالى خالق بل ظهر منها لأنه تعالى هو رتب كونه وظهوره على ما هو عليه رتبة لا يوجد بخلافها وهذا هو الخلق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون كالمتكسع في الظلمات وكما قال تعالى: " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " نعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن نوع الحركات موجود قبل خلق الناس فمن المحال البين أن يخلق المرء ما قد كان نوعه موجوداً قبله وأيضاً فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر وظهور الحركات ملازمة للمتحرك بها فإذا كان ذلك دليلاً باهراً على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها فما المانع أن يكون ذلك دليلاً باهراً أيضاً على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها لولا ضعف عقول القدرية وقلة علمهم نعوذ بالله مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو وأيضاً فإن الله تعالى قال: " إذاً لذهب كل إله بما خلق " فأثبت تعالى من خلق شيئاً فهو له إله فيلزمهم بالضرورة إنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها وهذا كفر مجرد إن طردوه وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد وأيضاً فإن من خلق شيئاً لم يعنه غيره عليه لكن انفرد بخلقه فبالضرورة يعلم أنه يصرف ما خلق كما يفعله إذا شاء ويتركه إذا شاء ويفعله حسناً إذا شاء وقبيحاً إذا شاء فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها وليخالفوها عن رتبتها فإن قالوا لا نقدر على ذلك فليعلموا انهم كاذبون في دعاويهم خلقها لأنفسهم فإن قالوا: إنما نفعلها كما قوانا الله على فعلها فليعلموا أن الله تعالى إذاً هو المقوي على فعل الخير والشر فإن به عز وجل كان الخير والشر وإذ لولا هو لم يكن خير ولا شر وبه كانا فهو كونهما وأعان عليهما وأظهرهما واخترعهما وهذا معنى خلقه تعالى لهما وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان أن الله تعالى خالق أفعال خلقه قوله تعالى حاكياً عن سحرة فرعون مصدقاً لهم مثنياً عليهم في قلوهم: " ربنا أفرغ علينا صبراً " فصح أنه خالق ما يفرغه من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر وأيضاً فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد وكل ما قيل عن الكل قيل على جميع أجزائه وعلى كل بعض من أبعاضه فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفته بما يعرف من مضاره ومنافعه في أكله وشربه وغير ذلك أكل ذلك مخلوق لله تعالى أم هو غير مخلوق فإن قالوا كل ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي يشهد العقل والحس بتصديقها وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونهم وهذه مكابرة ظاهرة ودعوة بلا برهان وإن قالوا بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها فإن تناقضوا كفونا أنفسهم وإن تمادوا لزمهم أنه تعالى لم يخلق شيئاً من الأعراض وهذا إلحاد ظاهر وإبطال للخلق وكفى بهذا إضلالاً ونعوذ بالله من الخذلان ويكفي من هذا أن الأعراض تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء وإن الطياش البذيء لا يقدر على الحياء والصبر والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحليم لا يقدر على النزق والسخي لا يقدر على المنع والشحيح لا يقدر على الجود وقال تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " فصح أن من الناس موقى شح نفسه مفلحاً وغير موقي ولا مفلح وكذلك الزكي لا يقدر على البلادة والبليد لا يقدر على الزكا والحافظ لا يقدر على النسيان والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ والشجاع لا يقدر على الجبن والجبان لا يقدر على الشجاعة هكذا في جميع الأخلاق التي عنها تكون الأفعال فصح ان ذلك خلق لله تعالى لا يقدر المرء على إحالة شيء من ذلك أصلاً حتى أن مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه لا يقدر البتة على صرفه كما خلق عليه من الجهارة والخفاء أو الطيب والسماحة وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله تعالى عليه ولو جهد وهكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما يشاء فإذا ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة أنه خلق الله تعالى فيمن نسب في اللغة على أنه فاعله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأكثرت المعتزلة في التولد وتحيرت فيه حيرة شديدة فقالت طائفة ما يتولد عن فعل المرء مثل القتل و الألم المتولد عن رمي السهم وما أشبه ذلك فإنه فعل الله عز وجل وقال بعضهم بل هو فعل الطبيعة وقال بعضهم بل هو فعل الذي فعل الفعل الذي عنه تولد وقال بعضهم فعل لا فاعل له وقال جميع أهل الحق أنه فعل الله عز وجل وخلقه فالبرهان في ذلك هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله تعالى خالق كل شيء وبالله تعالى التوفيق.